أبو الطيب المتنبي: دراسة في شعره وفنونه الأدبية
On 1:00 ص by مريم الشمريخصائص شعر المتنبي
تميزت قصائد أبو الطيب المتنبي بتعدد موضوعاتها، وقد تباينت خصائص شعره اللغوية والفنية والموضوعية كما يلي:
- الإيجاز
جسّد المتنبي مفهوم الإيجاز من خلال تكثيف المعنى دون إضافة أي حشو، مستخدمًا ألفاظًا قليلة. تُعرف هذه الأسلوب في العربية بــ “جوامع الكلم”، كما يتضح في قوله في قصيدة “أعيدوا صباحي”:
بِأَيِّ بِلادٍ لَم أَجُرَّ ذُؤابَتي
وَأَيُّ مَكانٍ لَم تَطَأهُ رَكائِبي
كَأَنَّ رَحيلي كانَ مِن كَفِّ طاهِرٍ
فَأَثبَتَ كوري في ظُهورِ المَواهِبِ
- الدقة والوضوح
يعتبر المتنبي من أكثر الشعراء براعة في الوصف، حيث يتميز بدقته في التشخيص، كما هو الحال في قوله في قصيدته “بنا منك”:
وَما المَوتُ إِلّا سارِقٍ دَقَّ شَخصُهُ
يَصولُ بِلا كَفٍّ وَيَسعى بِلا رِجلِ
يَرُدُّ أَبو الشِبلِ الخَميسَ عَنِ اِبنِهِ
وَيُسلِمُهُ عِندَ الوِلادةِ لِلنَملِ
- استحضار الصور بطريقة مبتكرة
أدخل المتنبي صورًا فنية جذابة في شعره، حيث يمتلك خيالًا قويًا، كما يتجلى في قوله في قصيدة “بنا منك”:
بَدا وَلَهُ وَعدُ السَحابَةِ بِالرَوى
وَصَدَّ وَفينا غُلَّةُ البَلَدِ المَحلِ
وَقَد مَدَّتِ الخَيلُ العِتاقُ عُيونَها
إِلى وَقتِ تَبديلِ الرِكابِ مِنَ النَعلِ
- الإغراب في التخيّل
استفاد من أسلوب التخيّل في المدح لإبراز فضائل الشخص الذي يمتدحه، كمدحه لسيف الدولة في قصيدة “نعد المشرفية”:
رَأَيتُكَ في الَّذينَ أَرى مُلوكاً
كَأَنَّكَ مُستَقيمٌ في مُحالِ
فَإِن تَفُقِ الأَنامَ وَأَنتَ مِنهُم
فَإِنَّ المِسكَ بَعضُ دَمِ الغَزالِ
- تكثيف المعاني في البيت الواحد
استعمل المتنبي المعاني المتعددة في البيت الواحد، حيث يظهر ذلك في قوله في قصيدة “بغيرك راعيًا”:
رَمَيتَهُمُ بِبَحرٍ مِن حَديدٍ
لَهُ في البَرِّ خَلفَهُمُ عُبابُ
فَمَسّاهُم وَبُسطُهُمُ حَريرٌ
وَصَبَّحَهُم وَبُسطُهُمُ تُرابُ
وَمَن في كَفِّهِ مِنهُم قَناةٌ
كَمَن في كَفِّهِ مِنهُم خِضابُ
بَنو قَتلى أَبيكَ بِأَرضِ نَجد
وَمَن أَبقى وَأَبقَتهُ الحِرابُ
- التلاؤم الصوتي وآلية التكرار
لاحظ النقاد أن شعر المتنبي اعتمد على فن التصدير، ورد الأعجاز على الصدور، مما أعطى أثرًا موسيقيًا للأذن السامعة، كما يتضح في قوله في قصيدة “لا الحلم جاد”:
لا الحِلمُ جادَ بِهِ وَلا بِمِثالِهِ
لَولا اِدِّكارُ وَداعِهِ وَزِيالِهِ
إِنَّ المُعيدَ لَنا المَنامُ خَيالَهُ
كانَت إِعادَتُهُ خَيالَ خَيالِهِ
بِتنا يُناوِلُنا المُدامَ بِكَفِّهِ
مَن لَيسَ يَخطُرُ أَن نَراهُ بِبالِهِ
الأغراض الشعرية عند المتنبي
تنوعت الأغراض الشعرية في أشعار المتنبي، ومن أبرزها الآتي:
الفخر
يمثل الفخر أحد الأغراض الشعرية الأكثر شيوعًا في شعر المتنبي، وقد تعددت أنواعه كما يلي:
- الفخر بالكرم
استعرض المتنبي الكرم في شعره بكثرة، مما يبرز صفة الكرم فيه كحاجز ضد الذم، كما يتضح في قوله:
كَفانِيَ الذَمَّ أَنَّني رَجُلٌ
أَكرَمُ مالٍ مَلَكتُهُ الكَرَمُ
يَجني الغِنى لِلِّئامِ لَو عَقَلوا
ما لَيسَ يَجني عَلَيهِمِ العَدَمُ
- الفخر بالمقدرة الشعرية
كان المتنبي يدرك تفرده في ساحت الشعر، حيث استثمر شعره في تعظيم موهبته وقوة تأثيره، كما يتبين في قوله:
أَجِزني إِذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما
بِشِعري أَتاكَ المادِحونَ مُرَدَّدا
وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني
أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى
- الفخر بالنفس
ظهر المتنبي في معظم أشعاره مُتفاخرًا بنفسه، حيث تناول أحوالها وتحولاتها بصيغة تُعظم من نزوع الأنا، كقوله في قصيدة “ألا لا أرى الأحداث حمدًا”:
تَغَرَّبَ لا مُستَعظِماً غَيرَ نَفسِهِ
وَلا قابِلاً إِلّا لِخالِقِهِ حُكما
وَلا سالِكاً إِلّا فُؤادَ عَجاجَةٍ
وَلا واجِداً إِلّا لِمَكرُمَةٍ طَعما
يَقولونَ لي ما أَنتَ في كُلِّ بَلدَةٍ
وَما تَبتَغي ما أَبتَغي جَلَّ أَن يُسمى
كَأَنَّ بَنيهِم عالِمونَ بِأَنَّني
جَلوبٌ إِلَيهِم مِن مَعادِنِهِ اليُتما
وَما الجَمعُ بَينَ الماءِ وَالنارِ في يَدي
بِأَصعَبَ مِن أَن أَجمَعَ الجَدَّ وَالفَهما
وَلَكِنَّني مُستَنصِرٌ بِذُبابِهِ
وَمُرتَكِبٌ في كُلِّ حالٍ بِهِ الغَشما
- الفخر بالشجاعة
شكل التغني بالشجاعة جزءًا كبيرًا من أشعار المتنبي، حيث أظهر شجاعة العديد من الخلفاء والأمراء، ومن أبرزهم سيف الدولة، كما يتضح في قوله:
وَمَن تَكُنِ الأُسدُ الضَواري جُدودَهُ
يَكُن لَيلُهُ صُبحاً وَمَطعَمُهُ غَصبا
وَلَستُ أُبالي بَعدَ إِدراكِيَ العُلا
أَكانَ تُراثاً ما تَناوَلتُ أَم كَسبا
فَرُبَّ غُلامٍ عَلَّمَ المَجدَ نَفسَهُ
كَتَعليمِ سَيفِ الدَولَةِ الطَعنَ وَالضَربا
إِذا الدَولَةُ اِستَكفَت بِهِ في مُلِمَّة
كَفاها فَكانَ السَيفَ وَالكَفَّ وَالقَلبا
تُهابُ سُيوفُ الهِندِ وَهيَ حَدائِدٌ
فَكَيفَ إِذا كانَت نِزارِيَّةً عُربا
الرثاء
خصص المتنبي فن الرثاء للجمع الذي كان له صلة وثيقة به، ومنهم جدته التي رثاها بقصائد مؤثرة:
أَلا لا أَرى الأَحداثَ حَمداً وَلا ذَمّا
فَما بَطشُها جَهلاً وَلا كَفُّها حِلما
إِلى مِثلِ ما كانَ الفَتى مَرجِعُ الفَتى
يَعودُ كَما أُبدي وَيُكري كَما أَرمى
لَكِ اللَهُ مِن مَفجوعَةٍ بِحَبيبِها
قَتيلَةِ شَوقٍ غَيرِ مُلحِقِها وَصما
أَحِنُّ إِلى الكَأسِ الَّتي شَرِبَت بِها
وَأَهوى لِمَثواها التُرابَ وَما ضَمّا
بَكَيتُ عَلَيها خيفَةً في حَياتِها
وَذاقَ كِلانا ثُكلَ صاحِبِهِ قِدما
الهجاء
التزم المتنبي بالهجاء لمن خيبوا ظنه وأساؤوا له، وبرز ذلك في ذم الزمان وسخطه على الدهر، كما يتضح في قوله:
صَحِبَ الناسُ قَبلَنا ذا الزَمانا
وَعَناهُم مِن شَأنِهِ ما عَنانا
وَتَوَلَّوا بِغُصَّةٍ كُلُّهُم مِنـ
ـهُ وَإِن سَرَّ بَعضُهُم أَحيانا
المعنى في شعر المتنبي
عُرف المتنبي بلقب شاعر المعاني؛ إذ تتميز أشعاره بكثافة المعاني وثرائها. وقد أثنى النقاد على أغراض شعره المتعددة، حيث اعتبر بعض رجال الشعر واللغة أنهم وقفوا حائرين أمامها لنضوج المعاني، وذهب الفصحاء إلى القول إن المحمود من الكلام ما يُحدد معناه بشكل واضح، كما هو الحال في شعر أبي الطيب المتنبي.
مآخذ على شعر المتنبي
توجد بعض المآخذ على شعر المتنبي، ومن أبرزها:
- الإسراف في المعاني
في بعض الأحيان، تجاوزت كثافة المعاني حدودها، مما أثار الانتقادات، مثلما يتضح في قصيدته “أحاد أم سداس”:
أُحادٌ أَم سُداسٌ في أُحادِ
لُيَيلَتُنا المَنوطَةُ بِالتَنادِ
- حرمان بعض الأبيات من العاطفة
كانت العاطفة لدى المتنبي مُقيدة، إذ لم تبرز بشكل جيد، نتيجة انشغاله في طلب المجد، كما يظهر في قوله:
نَحنُ مَن ضايَقَ الزَمانُ لَهُ فيـ
ـكَ وَخانَتهُ قُربَكَ الأَيّامُ
أبرز الآراء النقدية حول شعر المتنبي
تعددت الآراء النقدية حول شعر المتنبي، ومن بين هذه الآراء:
- ابن خلدون
يقول في مقدمته: “إن الشعر لا يكون سهلًا إلا إذا كانت معانيه تسبق ألفاظه إلى الذهن، ولهذا فإن شيوخنا – رحمهم الله – كانوا يُعيبون شعر ابن خفاجة لكثرة معانيه، كما كانوا يُعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية، فكلاهما كلماته منظومة لكنها دون طبقة الشعر، والحاكم في ذلك هو الذوق”.
- اليازجي
قال في كتابه “العرف الطيب”: “إن المعاني الشعرية ليست من قبيل الأسرار الصوفية أو القضايا التعليمية التي تستدعي دقة نظر وجهد ذهن في فهمها، بل هي معانٍ طبيعية يُمكن إدراكها بكل سهولة، ولا يستلزم ابتكارها أن تكون غامضة”.
كتب عن شعر المتنبي
يعتبر المتنبي أحد أبرز الشعراء الذين تُجرى الدراسات حول أشعارهم، ومن أهم الكتب التي تناولت شعره ما يلي:
- المتنبي وشوقي دراسة ونقد وموازنة
تأليف المفكر عباس حسن، صدر عام 1951 عن المطبعة المصرية، حيث تناول فيه دراسة تفصيلية لموضوعات شعر المتنبي ووزنها بأشعار أحمد شوقي.
- ديوان المتنبي
تحقيق الدكتور درويش الجويدي، وهو مجلدين يتضمنان جميع أشعار المتنبي مرتبة هجائيًا، صدر عن دار المكتبة العصرية عام 2014، ويحتوي على تحليل مفصل لأشعار المتنبي والبحور الشعرية وتفسير المعاني الغامضة في الأبيات.
نماذج من شعر المتنبي
تعتبر قصائد المتنبي من عيون الشعر العربي، ومن أبرزها:
- قصيدة واحر قلباه:
واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي
وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ
إِن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ
فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ
قَد زُرتُهُ وَسُيوفُ الهِندِ مُغمَدَةٌ
وَقَد نَظَرتُ إِلَيهِ وَالسُيوفُ دَمُ
فَكانَ أَحسَنَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ
وَكانَ أَحسَنَ مافي الأَحسَنِ الشِيَمُ
فَوتُ العَدُوِّ الَّذي يَمَّمتَهُ ظَفَرٌ
في طَيِّهِ أَسَفٌ في طَيِّهِ نِعَمُ
قَد نابَ عَنكَ شَديدُ الخَوفِ وَاِصطَنَعَت
لَكَ المَهابَةُ مالا تَصنَعُ البُهَمُ
أَلزَمتَ نَفسَكَ شَيئاً لَيسَ يَلزَمُها
أَن لا يُوارِيَهُم أَرضٌ وَلا عَلَمُ
أَكُلَّما رُمتَ جَيشاً فَاِنثَنى هَرَباً
تَصَرَّفَت بِكَ في آثارِهِ الهِمَمُ
عَلَيكَ هَزمُهُمُ في كُلِّ مُعتَرَكٍ
وَما عَلَيكَ بِهِم عارٌ إِذا اِنهَزَموا
أَما تَرى ظَفَراً حُلواً سِوى ظَفَرٍ
تَصافَحَت فيهِ بيضُ الهِندِ وَاللِمَمُ
- قصيدة لهوى النفوس:
لِهَوى النُفوسِ سَريرَةٌ لا تُعلَمُ
عَرَضاً نَظَرتُ وَخِلتُ أَنّي أَسلَمُ.
يا أُختَ مُعتَنِقِ الفَوارِسِ في الوَغى
لَأَخوكِ ثَمَّ أَرَقُّ مِنكِ وَأَرحَمُ.
يَرنو إِلَيكِ مَعَ العَفافِ وَعِندَهُ
أَنَّ المَجوسَ تُصيبُ فيما تَحكُمُ.
راعَتكِ رائِعَةُ البَياضِ بِعارِضي
وَلَوَ أَنَّها الأولى لَراعَ الأَسحَمُ.
لَو كانَ يُمكِنُني سَفَرتُ عَنِ الصِبا
فَالشَيبُ مِن قَبلِ الأَوانِ تَلَثُّمُ.
وَلَقَد رَأَيتُ الحادِثاتِ فَلا أَرى
يَقَقاً يُميتُ وَلا سَواداً يَعصِمُ.
وَالهَمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً
وَيُشيبُ ناصِيَةَ الصَبِيِّ وَيُهرِمُ.
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ
وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ.
وَالناسُ قَد نَبَذوا الحِفاظَ فَمُطلَقٌ
يَنسى الَّذي يولى وَعافٍ يَندَمُ.
لا يَخدَعَنَّكَ مِن عَدُوٍّ دَمعُهُ
وَاِرحَم شَبابَكَ مِن عَدُوٍّ تَرحَمُ.
لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى
حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَمُ.
اترك تعليقاً