الشاعر أبو البقاء الرندي: إسهاماته وتأثيره في الأدب العربي
On 2:43 م by هالة القيسيأبو البقاء الرندي
يُعتبر الشعر في العصر الأندلسي من أبرز أشكال الأدب، حيث ازدهر وتوسع في تلك الفترة نتيجة لجمال طبيعة الأندلس. وقد ألهمت هذه البيئة الشعراء لكتابة قصائدهم، سواء كان ذلك في غزل أو هجاء أو مدح أو رثاء. بالإضافة إلى ذلك، فقد قام شعراء الأندلس بابتكار نمط جديد من القصائد يُعرف باسم “الموشحات الشعرية”، والتي تتميز عن الأشكال التقليدية. ومن بين هؤلاء الشعراء برز أبو البقاء الرندي، الذي اشتهر برثائه للمدن الأندلسية، ونال لقب شاعر رثاء الأندلس من قِبَل المؤرخين.
أصول أبي البقاء الرندي وحياته
أبو البقاء الرندي هو صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف النفري الرندي، وُلِد في عام 651 هـ في مدينة رُنْدَة بجنوب الأندلس، والتي نُسب إليها. حول كنيته، يُقال إنه كان يُكنى بأبي البقاء، لكن الرأي الشائع هو أنه حضر بلقب أبي الطيب. عُرف الرندي بكونه عالماً وشاعراً وفقيهاً، وكان له دور بارز في القضاء في بلده، كما اشتهر بلغة رصينة في كتاباته، حيث كتب في النثر والشعر، وأبدع في فن الوصف، ولكن ما أدى إلى الشهرته هو براعته في كتابة المراثي الحزينة ذات الطابع الملحمي.
مؤلفات أبي البقاء الرندي
رغم أن لأبي البقاء الرندي مشاركات قليلة في مجالات القضاء والفرائض والتأليف، سوى أنه قام بتأليف كتاب بعنوان “جزء على حديث جبريل” وكتابه في الشعر “الوافي في علم القوافي”، إضافةً إلى مؤلفه الضخم “روضة الأندلس ونزهة النفس”، إلى جانب تصنيفات أخرى في العروض والفرائض.
تميز شعره بجزالة الألفاظ ووضوح المعاني ورقتها. وقد كتب قصائد مبدعة في مواضيع متعددة، حيث تناول النفس البشرية بما يصدر عنها من أفعال حسنة وسيئة، كما وصف الطبيعة بما فيها من جبال وبحار وأنهار. ومن أبرز قصائده:
- قصائد يمتدح فيها أبطال المسلمين ويذم فيها الكفار، مثل قوله:
وكتيبة بالدَّارعين كثيفة
جرَّت ذيول الجحفل الجرار
روضُ المنايا بينها القُضُب التي
زُفَّت بها الرَّايات كالأَزهار
فيها الكُماة بنو الكُماة كأَنهم
أُسد الشَّرى بين القنا الخَطّار
مُتهلِّلين لدى اللِّقاء كأَنهم
خُلِقت وجوههم من الأَقمار
من كلِّ ليثٍ فوق برقٍ
خاطف بيمينه قدر من الأَقدار
من كلِّ ماضٍ قد تقلَّد مثله
فيصُيبَّ آجالاً على الأَعمار
- قوله حول الأخوة المزيفة التي تختفي عند الحاجة:
ليس الأُخوةٍ باللسان أُخُوَّة
فإذا تُراد أخوَّتي لا تنفعُ
لا أنت في الدنيا تُفرج كربة
عنِّي ولا يوم القيامة تشفعُ
- قوله حول وصف البحار والأنهار:
البحر أعظم ممّا أنت تَحسِبه
مَن لم يرَ البحر يوماً ما رأى عجبا
طام له حَبَبٌ طاف على زورقٍ
مثل السماءِ إذا ما ملئت شُهُبا
- قوله في وصف الريحان:
وأخْضر فستقي اللونِ غضٌّ
يروقُ بحسنِ منظره العُيونا
أغارُ على الترنجِ وقد حكاه
وَزادَ على اسمهِ ألفاً ونونا
مرثية أبي البقاء الرندي
الرثاء شكل شعري قديم، انتقل إلى بلاد الأندلس، حيث عمل الشعراء على تطويره وتوسيعه، حتى أُدخل فيه رثاء المدن والدول، وليس فقط الأقارب والأحباء. وعقب سقوط المدن الإسلامية بأيدي النصارى وتعرض المسلمين للطرد والتشريد، شعر شعراء الأندلس بوقع الكارثة، وبدأوا في نظم القصائد التي تحث الملوك على استعادة المفقود. بعد أن فشلت محاولات الملوك في حماية مدنهم، بدأ الشعراء برثاء ممالكهم، مما جعل رثاء المدن فناً شعرياً مستقلاً في الأدب الأندلسي.
قام أبو البقاء الرندي بكتابة قصيدة تُعد من أشهر المراثي في التاريخ، وهي ليست مجرد مرثية لمدينة معينة، بل لوحة تعبر عن فراق الأندلس ككل. تمت قصيدته في وقت كان فيه ابن الأحمر يتنازل عن بعض المدن لصالح ألفونش، إذ بدأ القصيدة بمناشدة أهل العدوة المرينيين.
للشاعر في إحدی أبيات قصيدته:
لِـكُلِّ شَـيءٍ إِذا مـا تَمّ نُقصان
فَـلا يُـغَرَّ بِـطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِـيَ الأُمُـورُ كَما شاهَدتُها دُوَل
مَـن سَـرّهُ زَمَـن سـاءَتهُ أَزمانُ
وَهذهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحدٍ
ولا يَدومُ عَلى حالٍ لهـا شــانُ
تُمزق الدهر حتماً كل سابغةٍ
إذا نبت مشرفيـّاتٌ وخُرصـانُ
وينتضي كلّ سيف للفناء ولوْ
كان ابن ذي يزَن والغمدَ غمدانُ
أين الملوك ذوي التيجانِ من يمنٍ
وأين منهم أكليــلٌ وتيجانُ؟
وأين ما شادهُ شدادُ في إرمٍ
وأين ما ساسهُ في الفُـرسِ ساسانُ؟
وأين ما حازه قارُونُ من ذهبٍ
وأين عادٌ وشـدادٌ وقحطـانُ؟
عندما تتأمل القصيدة، تلاحظ عمق دلالاتها وسلاسة ألفاظها، دون تكلف أو اصطناع، حيث كان يسعى أن تصل كلماته إلى كل شخص يُعبر عن رفضه للذل والهوان، منتظراً أن تتغير أحوالهم، يقول في ذلك:
وماشياً مرحاً يلهيه موطنهُ
أبعد حمصٍ تَغرّ المرءَ أوطانُ
وفاة أبي البقاء الرندي
توفي الشاعر أبو البقاء الرندي في عام 684 هـ، وترك وصية أن تُكتب على قبره الأبيات التالية:
خليليَّ بالودِّ الذي بيننا اجعلا
إذا متُّ قبري عرضةً للترحُّمِ
عَسى مسلمٌ يدنو فيدعو برحمةٍ
فإنِّي محتاجٌ لدعوةِ مُسلمِ
اترك تعليقاً