أجمل قصائد الشعر الفصيح
On 1:19 ص by عماد زكرياقصيدة شجرة القمر
على قمةٍ من جبال الشمال المغطاة بالصنوبر،
يحيط بها أفق مخملي وجو معطر.
ترسو الفراشات عند ذروتها لتقضي المساء،
وعند ينابيعها تستحمّ نجوم السماء.
هناك كان يعيش غلام بعيد الخيال،
إذا جاع يأكل ضوء النجوم ولون الجبال.
ويشرب عطر الصنوبر والياسمين الأخضر،
ويملأ أفكاره من شذى الزنبق المنفعل.
كان غلامًا غريب الرؤى مضطرب الذكريات،
يطارد عطر الربى وصدى الأغاني الحالمة.
وكانت أبرز أحلامه أن يصيد القمر،
ويودعه في قفص من ندًى وشذى وزهر.
كان يقضي المساء يحوك الشباك والأحلام،
يوسّد نفسه أعشابًا باردة عند نبع مغمغِم.
يسهر يتأمل وادي المساء ووجه القمر،
وقد عكسه ماء الغدير ببرودة عطرة.
لم يكن يغفو إلا إذا مرّ الضوء اللذيذ
على شفتيه ويسقيه إغماءة كأس من نبيذ.
لم يكن يشرب من منبع الماء إلا إذا
أراق الهلال عليه غلائل سكرى الشذى.
وفي ذات صيف، تسلّل هذا الغلام مساءً،
خفيف الخطى، عاري القدمين، قلق الدماء.
سار ببطء نحو قمة شاهقة،
خبأ هيكله في حمى داحة باسقة.
راح يعد الثواني بقلب يدق ويُدق،
<p وينتظر القمر العذب والليل نشوان طلق.
وفي لحظة، رفع الشرق أستاره المعتمة،
ولاحت الجبين اللجيني والفتنة الملهمة.
كان قريبًا ولكنه لم يرَ صيادنا الباسما،
على التل، فانساب ذراع السماء حالمًا.
وطوّقه العاشق الجبلي، ولمس جبينه،
وقبّل أهدابه الذائبات شذى وليونة.
وأعاده مع بحار الضياء وكأس النعومة،
بتلك الشفاه التي شغلت كل رؤية قديمة.
أخفي في كوخه لا يمل إليه النظر،
أذلك حلمٌ؟ وكيف وقد صاد.. صاد القمر؟
وأرقده على مهادٍ عبيرها الرونق،
وكلّله بالأغاني، بعيونه، بالزنبق.
وفي القرية الجبلية، بين حلقات السمر،
في كل حقل، نادى المنادون: “أين القمر؟!”
“أين أشعته المخملية في مرجاننا؟”
“وأين غلائله السحابية في حقلنا؟”
ونادت صبايا الجبال جميعًا: “نريد القمر!”
فرددت القنن السامقات: “نريد القمر!”
“مُسامرنا الذهبي وساقي صدى زهرنا،”
“وساكب عطر السنابل والورد في شعرنا.”
“مُقبّل كل الجراح وساقي شفاه الورود،”
“وناقل شوق الفراش لنبع ماء بارود.”
“يضيء الطريق إلى كل حلم بعيد القرار،”
“ويُنمي جدائلنا ويُريق عليها النضار.”
“ومن أين تبرّد أهدابنا إن فقدنا القمر؟”
“ومَن ذا يرقّق ألحاننا؟ مَن يغذي السمر؟”
ولحن الرعاة تردد في وحشة مضنية،
فضجّت برجع النشيد العرائش والأودية.
ثاروا وساروا إلى حيث يسكن ذاك الغلام،
ودقوا على الباب في ثورة ولهى واضطرام،
وجنوا جنونًا ولم يبقَ فوق المراقي حجر،
ولا صخرة لم يُعيدوا الصراخ: “نريد القمر!”
وطاف الصدى بجناحيه حول الجبال وطار،
إلى عرابات النجوم وحيث ينام النهار.
وأشرب من ناره كل كأس لزهرة فلي،
وأيقظ كل عبير غريب وقطرة شتا.
وجمع من سكرات الطبيعة صوت احتجاج،
تردد عند عريش الغلام وراء السياج.
وهز السكون وصاح: “لماذا سرقت القمر؟”
فجنّ المساء ونادى: “وأين خبأت القمر؟”
وفي الكوخ كان الغلام يضم الأسير الضحوك،
ويُمطِرُه بالدموع ويصرخ: “لن يأخذوك؟”
كان هتاف الرعاة يشق إليه السكون،
فيسقط من روحه في هوًى من أسى وجنون.
وراح يغني لملهمه في جوى وانفعال،
ويخلط بالدمع والملح ترنيمته للجمال.
ولكن صوت الجماهير زاد جنونًا وثورة،
وعاد يقلّب حلم الغلام على حد شفرة.
يهبط بصوته كالرصاص ثقيل المرور،
ويهدم ما شيّدته خيالاته من قصور.
وأين سيهرب؟ أين يخبئ هذا الجبين،
ويحميه من ثورة الشوق في أعين الصائدين؟
وفي أي شيء يلفّ أشعته يا سماء،
وأضواءه تتحدى المخابئ في كبرياء؟
مرّت دقائق المنفعلة وقلب الغلام،
تمزقه مدية الشك في حيرة وظلام.
جاء بفأس وراح يشق الثرى في ضجر،
ليدفن هذا الأسير الجميل، وأين المفر؟
راح يودّعه في اختناقٍ ويغسل لونه،
بأدمعه ويصبّ على حظه ألف لعنته.
وحين استطاع الرعاة الملحّون هدم الجدار،
وتحطيم بوابة الكوخ في تعب وانبهار،
تدفّق تيارهم في هياج عنيف ونقمة،
فماذا رأوا؟ أي يأس عميق وأيّة صدمة!
فلا شيء في الكوخ غير السكون والظلم.
وأمّا الغلام فقد نام مستغرقًا في حلم.
جدائله الشقر منسدلات على كتفيه،
وطيف ابتسام تلكأ يحلم في شفتيه.
وجه كأن أبولون شرّبه بالوضاءة،
وإغفاءة هي سر الصفاء ومعنى البراءة.
وحار الرعاة: هل يسرق هذا البريء القمر؟
ألم يخطئوا الاتهام لذا؟ ثم… أين القمر؟
وعادوا حائرين لأكواخهم يسألون الظلام،
عن القمر العبقري أتاه وراء الغمام؟
أم اختطفته السعالي وأخفته خلف الغيوم،
وراحت تكسره لتغذي ضياء النجوم؟
أم ابتلع البحر جبهته البضة الزنبقية؟
وأخفاه في قلعة من لآلئ بيض نقيّة؟
أم الريح لم يُبقِ طول التنقل من حذائه
سوى مزق خلقات فأخفته في كهفها،
لتصنع خفين من جلده اللين اللبني،
وأشرطة من سناه لهيكلها الزنبقي.
وجاء الصباح بليل الخطى قمرية البرود،
يتوج جبينته الغسقية عقد من ورود.
يجوب الفضاء وفي كفه دورق من جمال،
يرش الندى والبُرودة والضوء فوق الجبال.
ومرّ على طرفَي قدميه بكوخ الغلام،
ورشّ عليه الضياء وقَطرَ الندى والسلام.
وراح يسير لينجز أعماله في السُفُوح،
يوزّع ألوانه ويشيع الرضا والوضوح.
وهبّ الغلام من النوم منتعشًا في انتشاء،
فماذا رأى؟ يا ندى! يا شذى! يا رؤى! يا سماء!
هنالك في الساحة الطحلبية، حيث الصباح،
تعوّد أن لا يرى غير عشب رعته الرياح،
هنالك كانت تقوم وتمتدّ في الجو سدرة،
جدائلها كُسيت خُضرةً خصبة هي تره.
رعاها المساء وغذّت شذاها شفا القمر،
وأرضعتها ضوءه المختفي في التراب العطر.
وأشرب أغصانها الناعمات رحيق شذاه،
وصب على لونها فضّة عُصِرَت من سناه.
وأثمارها، أي لون غريب وأي ابتكار،
لقد حار فيها ضياء النجوم وغار النهار.
وجنّت بها الأشجار المقلدة الجامدة،
فمنذ عصور وأثمارها لم تزل واحدة.
فمن أي أرض خيالية رضعَت؟ أي تربه،
سقتها الجمال المفضل؟ أي ينابيع عذبة؟
وأيّة معجزة لم تصلها خيالات الأشجار،
جميعًا؟ فمن كل غصن طري تدلى قمر.
ومرّت عصور ولم يعد أهل القرى يتذكرون،
حياة الغلام الغريب الرؤى العبقري الجنون.
وحتى الجبال طوت سره وتناست خطواته،
وأقمارَهِ وأناشيده واندفاع مُناه.
وكيف أعاد لأهل القرى الوالهين القمر،
وأطلقه في السماء كما كان دون مقر،
يجوب الفضاء وينثر فيه الندى والبرودة،
وشبه ضباب تحدّر من أمسياتٍ بعيده.
وهَمْسًا كأصداء نبع تحدّر في عمق كهف،
يؤكد أن الغلام وقصته حلم صيف.
قصيدة في جبال الشمال
عد بنا يا قطار،
فالظلام رهيب هنا والسكون ثقيل،
عد بنا فالمدى شاسع والطريق طويل،
والليالي قصار.
عد بنا فالرياح تنوح وراء الظلال،
وعواء الذئاب وراء الجبال،
كصراخ الأسى في قلوب البشر،
عد بنا فعلى المنحدر،
شبح مكفهر حزين،
تركت قدماه على كل فجر أثر،
كل فجر تقضّى هنا بالأسى والحنين.
شبح الغربة القاتلة،
في جبال الشمال الحزين،
شبح الوحدة القاتلة،
في الشمال الحزين.
عد بنا قد سئمنا الطواف،
في سفوح الجبال وعدنا نخاف،
أن تطول ليالي الغياب،
ويغطي عواء الذئاب،
صوتنا ويعزّ علينا الإياب.
عد بنا للجنوب،
فهناك وراء الجبال قلوب،
عد بنا للذين تركناهُم في الضباب،
كل كف تلوح في لهفة واكتئاب،
كل كف فؤاد.
عد بنا يا قطار، سئمنا الطواف وطال البعاد،
وهناك همس عميق،
لا ثغ خلف كل طريق،
في شعاب الجبال الضخام،
ووراء الغمام،
في ارتعاش الصنوبر، في القرية الشاحبة،
في عواء ابن آوى، وفي الأنجم الغاربة،
في المراعي هناك صوت شريد،
هامس أن نعود،
فهناك بيوت أخرى،
ومراعٍ أخر،
وقلوب أخرى،
وهناك عيون أبت أن تنام،
وأكف تضم الدجى في اضطرام،
وشفاه تردد أسماءنا في الظلام،
وقلوب تصيغ لأقدامنا في وُجوم،
وتنادي النجوم،
في أسى وسكون:
“ومتى يا نجوم سيذكرنا الهاربون؟”
“ومتى يرجعون؟”
لحظة، سنعود،
لن يرانا الدجى ها هنا، سنعود،
سنعود سنطوي الجبال،
وركام التلال،
لن ترانا ليالي الشمال
ها هنا من جديد،
لن يحس الفضاء المديد،
نار آهاتنا في المساء الرهيب،
في سكون المساء الرهيب.
عد بنا يا قطار الشمال،
فهناك وراء الجبال،
الوجوه الرقيقة التي حجبها الليالي،
عد بنا، عد إلى الأذرع الحانية،
في ظلال النخيل،
حيث أيامنا الماضية،
في انتظار طويل.
وقفت في انتظار،
تتحرى رجوع القطار،
لتسير مع السائرين،
حيث أيامنا تسأل العابرين،
واحدًا، واحدًا، في حنين،
“ومتى عودة الهاربين؟”
لنعد فهناك نشيد قديم،
حولنا هامس بالرجوع،
ما أحب الرجوع،
بعد هذا الطواف الأليم،
في جديب الشِّعاب،
حيث تعوي الذئاب.
لنعد، فالدجى بارد كالجليد،
وهنالك خلف الفضاء البعيد،
أذرع دافئة.
لنعد فالجبال تكشر عن ليلها المظلم،
وهنالك خلف الدجى المبهام،
صوت أحبابنا، في الظلام السحيق،
نابضًا بالحنين العميق،
صوتهم مثقلا بالعتاب،
صوتهم ردّدته الشِّعاب،
صوتهم في سكون المكان،
دائر كالزمان.
لنعد قبل أن يقضي الأفعوان،
بفراق طويل، طويل،
عن ظلال النخيل،
عن أعزائنا خلف صمت القفار.
عد بنا يا قطار،
فالليالي قصار،
وهناك أحبابنا في أسًى وانتظار.
مقتطفات من قصيدة ذكريات الطفولة
لم يزل مجلسي على تلّي الرم،
لي يصغي إلى أناشيد أمي،
لم أزل طفلة سوى أنني قد،
زدت جهلاً بكنه عمري ونفسي،
ليتني لم أزل كما كنت قلباً،
ليس فيه إلا السنا والنقاء.
كلّ يوم أبني حياتي أحلاماً،
ما وأنسى إذا أتى المساء.
في ظلال النخيل أبني قلاعاً،
وقصورًا مشيدة في الرمال.
أسفاً يا حياة، أين رمالي،
وقصوري؟ وكيف ضاعت ظلالي؟
إيه تلّ الرمال ماذا ترى أب،
قيت لي من مدينة الأحلام؟
أين أبراجها العليات هل انطوت،
وراء الزمان في أوهام؟
ذهب العسل لم أعد طفلة،
ترقب عش العصفور كل صباح.
لم أعد أبصر الحياة كما كانت،
رحيقاً يذوب في أقداحي.
لم أعد في الشتاء أرنو إلى الأم،
طار من مهدي الجميل الصغير.
لم أعد أعشق الحمامة إن غنت،
وألهو على ضفاف الغدير.
كم زهور جمّعتها وعطور،
سرقتها الحياة لم تبق شيئاً.
كم تعاليل صغتها بدّدتها،
وتبقّى تذكارها في يديّا.
كان شدو الطيور رجع أناشيد،
وكان النعيم يتبع ظلي.
كان هذا الوجود مملكتي الكبرى،
فيا ليتها تعود إليّا.
ليت تل الرمال يسترجع الأسرار،
والشعر والجمال الطريّا.
لم أعد أستطيع أن أحكم الزهر،
وأرعى النجوم في كل ليل.
هل أنا الآن غير شاعرة،
تدرك سر الكون الجديب الممل؟
ذهب الأمس والطفولة واعتضت،
بحسي الرهيف عن لهو أمسي.
كل ما في الوجود يؤلمني الآن،
وهذه الحياة تجرح نفسي.
قد تجلّت لي الحقيقة طيفاً،
في مقلتيه جنون.
وتلاشى حلم الطفولة في الماضي،
ولم يبق منه إلا الحنين.
أين لون الأزهار؟ لم أعد أرى،
في الأزهار غير البوار.
كلما أبصرت عيوني أزهار،
تذكرت قاطف الأزهار.
أين لحن الطيور؟ لم يعد الآن،
اشتياقاً وحرقة في فؤادي.
فالغناء اللذيذ ضاع صداه،
وانطوى في تذكر الصياد.
أين همس النسيم؟ أشواقه،
انطفأت لم تعد تثير خيالي.
فغدا يهمس النسيم بموتي،
في عميق الهوى وفوق التلال.
أين مني مفاتن الليل شعري،
وغموض في غيهب مسحور؟
لم أعد أعشق الظلام، غدا أهدى،
عظامًا تحت الظلام الكبير.
ها أنا الآن تحت ظل من الصفصاف،
والتين مستطاب ظليل.
أقطف الزهر إن رغبت وأجني،
الثمر الحلو في صباحي الجميل.
وغدًا ترسم الظلال على قبري،
خطوطاً من الجمال الكئيب.
ذاك دأب الحياة تسلب ما تعطيه،
بخلاً لا كان ما تعطيه.
قصيدة وطن
علّقوني على جدائل نخله،
واشنقوني … لن أخون النخلة!
هذه الأرض لي… وكنت قديماً،
أحلبُ النوق راضياً ومولّها.
وطني ليس حزمه من حكايا،
ليس ذكرى، وليس قصةً أو نشيداً،
ليس ضوءاً على سوالف فله،
وطني غضبة الغريب على الحزن،
وطفلٌ يريد عيداً وقبله.
ورياح ضاقت بحجرة سجن،
وعجوز يبكي بنيه.. وحلقه.
هذه الأرض جلد عظمي،
وقلبي…
فوق أعشابها يطير كالنحلة.
علّقوني على جدائل نخله،
واشنقوني فلن أخون النخلة!
اترك تعليقاً